((الموضوع منقول))
رشيد الخيون
على أساس الزُّهد شُيد التَّصوف، وهو العفة القصوى إلى عشقها والتَّسلي بها، مثلما تكون الخيانة للمال العام أو الخاص سلوى لدى اللّصوص، فأطباء النُّفوس يعرفون نماذج مِن النَّاس لا يسرقون وينهبون لحاجة إنما لمرض أصابهم. ولا يُعدم اللِّصوص أيضاً مِن أعراف، فلص الحارة لا يسرق حارته، بل يرد عنها الصوص الغرباء. وقد عرفنا من بين النَّاس مهووسين في النَّظافة، لكن يصعب العثور على مهووس بالأمانة، لكن لك يُعدم الوجود، وهناك فرق بين الأمين والعفيف والمهووس.
أرى في ما نُقل عن علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ) أنه كان مهووساً بالعِفة والنَّزاهة تجاه بيت المال، وقصته مع أخيه عقيل بن أبي طالب (ت 60 هـ) معروفة، عندما أتاه طالباً منه شيئاً مِن بيت المال. كذلك تروى قصص تكاد لا تُحصى عن عِفة ونزاهة عمر بن الخطاب (اغتيل 23 هـ) تجاه بيت المال أيضاً. ومَن يراجع حوادث عام الرَّمادة (القحط) (18 هـ) يقف على الكثير مِن تلك القصص.
لكن كلَّ هذا بكفة وقصة جوع علي بن أبي طالب وصراحة أخت بشر الحافي بكفة أخرى. روى الزُّبير بن بكار (ت 356 هـ) الآتي: أن أحد القرظيين اليهود سمع علي يتذكر جوعه في غداة شاتية، ولما مرَّ بصاحب بستان يسقي زرعه فاطلع عليه من ثقف الحائط، فدخل إليه وأعطاه دلواً يدلي به الماء، وكل دلو مقابل تمرة، حتى تجمعت في كفه تمرات سد بها رمقه(الأخبار الموفقيات). الرِّواية ليست غريبة على شخص كفله ابن عمَّه لعدم قدرة الأب (أبو طالب) على أكله وشربه، ويكفي أن النَّبي كناه بأبي تُراب، ومَن يسع للعفة والنزاهة يُقال له: ترابي! وعليٌّ صار خليفة وظل لا يجمع بين أدامين.
أما قصة أخت المتصوف بشر بن الحافي، فهي أيضاً تقبل الواقع والخيال معاً، وتدفع إلى الدَّهشة مِن أصناف مِن البشر. نقرأ خبرها عند ابن الجوزي (ت 597هـ)، في كتابه «سلوة الأحزان»: سألت أخت الحافي، بعد وفاة أخيها بِشر(ت 226هـ) أحمد بن حنبل (ت 241هـ): «أنا امرأة أغزل باللَّيل على السِّراج، فربما انطفئ نور السِّراج، فأغزل على ضوء القمر. فهل يجب عليَّ أن أبين هذا مِن هذا للمشتري».
و امرأة أخرى، مِن المهووسات في النَّزاهة، سألت ابن حنبل: «أنا رأس مالي دانقان، أشتري بهما قطناً، وأغزله وأبيعه بنصف درهم، فأتقوت بدانق مِن الجمعة إلى الجمعة، فمرَ عليَّ طواف ومعه مشعل، فوقف يكلم بعض النَّاس، واشتغل معه بالحديث، فاغتنمت ضوء المشعل وغزلت فيه طاقات، فإن كان في ذلك أثم فخلصني يخلصك الله»!
لا أكتب هذا اعتقاداً ومطلباً، فالأزمنة في دوران، والأكوان في تغير وتبدل، واعلم ان في الروايتين شيئاً مِن الخيال، لكنه الخيال غير المقطوع عن أصل الواقع، بقدر ما اكتبها سلوى للعراقيين، في عصر سرقة الشَّمس والقمر والماء، فلا أضوية المشاعل ولا ضوء النَّهار كافيان على جلي العتمة. أنصح بقراءة «سلوة الأحزان» للاستئناس بتواضع الإمام، وجنون هاتين المرأتين، فالتواضع والنَّزاهة اليوم تبدوان ضرباً مِن الجنون. ومِن جانبي أقول: هذا كثير يا علي، ويا أخت الحافي.
هذا كثير... يا عليٌ وأخت الحافي!
رشيد الخيون
على أساس الزُّهد شُيد التَّصوف، وهو العفة القصوى إلى عشقها والتَّسلي بها، مثلما تكون الخيانة للمال العام أو الخاص سلوى لدى اللّصوص، فأطباء النُّفوس يعرفون نماذج مِن النَّاس لا يسرقون وينهبون لحاجة إنما لمرض أصابهم. ولا يُعدم اللِّصوص أيضاً مِن أعراف، فلص الحارة لا يسرق حارته، بل يرد عنها الصوص الغرباء. وقد عرفنا من بين النَّاس مهووسين في النَّظافة، لكن يصعب العثور على مهووس بالأمانة، لكن لك يُعدم الوجود، وهناك فرق بين الأمين والعفيف والمهووس.
أرى في ما نُقل عن علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ) أنه كان مهووساً بالعِفة والنَّزاهة تجاه بيت المال، وقصته مع أخيه عقيل بن أبي طالب (ت 60 هـ) معروفة، عندما أتاه طالباً منه شيئاً مِن بيت المال. كذلك تروى قصص تكاد لا تُحصى عن عِفة ونزاهة عمر بن الخطاب (اغتيل 23 هـ) تجاه بيت المال أيضاً. ومَن يراجع حوادث عام الرَّمادة (القحط) (18 هـ) يقف على الكثير مِن تلك القصص.
لكن كلَّ هذا بكفة وقصة جوع علي بن أبي طالب وصراحة أخت بشر الحافي بكفة أخرى. روى الزُّبير بن بكار (ت 356 هـ) الآتي: أن أحد القرظيين اليهود سمع علي يتذكر جوعه في غداة شاتية، ولما مرَّ بصاحب بستان يسقي زرعه فاطلع عليه من ثقف الحائط، فدخل إليه وأعطاه دلواً يدلي به الماء، وكل دلو مقابل تمرة، حتى تجمعت في كفه تمرات سد بها رمقه(الأخبار الموفقيات). الرِّواية ليست غريبة على شخص كفله ابن عمَّه لعدم قدرة الأب (أبو طالب) على أكله وشربه، ويكفي أن النَّبي كناه بأبي تُراب، ومَن يسع للعفة والنزاهة يُقال له: ترابي! وعليٌّ صار خليفة وظل لا يجمع بين أدامين.
أما قصة أخت المتصوف بشر بن الحافي، فهي أيضاً تقبل الواقع والخيال معاً، وتدفع إلى الدَّهشة مِن أصناف مِن البشر. نقرأ خبرها عند ابن الجوزي (ت 597هـ)، في كتابه «سلوة الأحزان»: سألت أخت الحافي، بعد وفاة أخيها بِشر(ت 226هـ) أحمد بن حنبل (ت 241هـ): «أنا امرأة أغزل باللَّيل على السِّراج، فربما انطفئ نور السِّراج، فأغزل على ضوء القمر. فهل يجب عليَّ أن أبين هذا مِن هذا للمشتري».
و امرأة أخرى، مِن المهووسات في النَّزاهة، سألت ابن حنبل: «أنا رأس مالي دانقان، أشتري بهما قطناً، وأغزله وأبيعه بنصف درهم، فأتقوت بدانق مِن الجمعة إلى الجمعة، فمرَ عليَّ طواف ومعه مشعل، فوقف يكلم بعض النَّاس، واشتغل معه بالحديث، فاغتنمت ضوء المشعل وغزلت فيه طاقات، فإن كان في ذلك أثم فخلصني يخلصك الله»!
لا أكتب هذا اعتقاداً ومطلباً، فالأزمنة في دوران، والأكوان في تغير وتبدل، واعلم ان في الروايتين شيئاً مِن الخيال، لكنه الخيال غير المقطوع عن أصل الواقع، بقدر ما اكتبها سلوى للعراقيين، في عصر سرقة الشَّمس والقمر والماء، فلا أضوية المشاعل ولا ضوء النَّهار كافيان على جلي العتمة. أنصح بقراءة «سلوة الأحزان» للاستئناس بتواضع الإمام، وجنون هاتين المرأتين، فالتواضع والنَّزاهة اليوم تبدوان ضرباً مِن الجنون. ومِن جانبي أقول: هذا كثير يا علي، ويا أخت الحافي.